مبررات الرفض السابق مقارنة مع التغير اللاحق
التشريعي بين أوسلو الميت وشروطه الحية
مقاربات وأسباب دافعة لقرار حماس
التشريعي بين مثالية حماس وحقيقة واقعه
الحزبية السياسية بين الإعلان والممارسة
مقاربات متناقضة ونتائج مورطة
مبررات الرفض السابق مقارنة مع التغير اللاحق
بإعلان حركة حماس عزمها خوض الانتخابات التشريعية الفلسطينية، تكون الحركة قد اتخذت في تاريخها قرارا إستراتيجيا سيكون له ما بعده على صعيد علاقاتها ومستقبلها.
"
التحشيد السابق في أدبيات حماس كان صريحا في رفضه للانتخابات التشريعية، من منطلقات أساسها ارتباط هذه الانتخابات باتفاقيات أوسلو
"
ولم يكن القرار تكتيكيا البتة بقدر ما كان تحولا نوعيا، فالتحشيد السابق في أدبيات حركة حماس كان صريحا في رفضه لهذه الانتخابات من منطلقات أساسها ارتباط هذه الانتخابات باتفاقيات أوسلو واستثنائها للفلسطينيين المقدسيين واللاجئين وأحقية لجنة قانونية مشتركة مع إسرائيل بالاعتراض على أي تشريعات فلسطينية تنتقص من الاتفاقيات السابقة.
ولم تكن هذه المنطلقات ظنية بل كانت واقعية ونصت عليها مواد اتفاقية واشنطن المعقودة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بتاريخ 28-9-1995، وحتى المادة السادسة من البروتوكول الخاص بانتخابات المقدسيين، تشير إلى لجنة إشراف مشتركة مع الإسرائيليين، وبآلية تصويت تتم بطريقة غير مباشرة من خلال مكاتب البريد أي بتصويت يشبه المقدسيين وكأنهم بأرض أجنبية، وحتى تعداد المقدسيين المشاركين في العملية الانتخابية يخضع لضوابط إسرائيلية، جعلت عددهم لا يساوي أكثر من 13% حسب الإحصائيات الإسرائيلية.
وإذا كانت كل هذه الإشكاليات هي المبررات التي أدت إلى إحجام حماس عن الاشتراك في المجلس التشريعي الحالي، فقد تعاضد مع ذلك غياب دستور فلسطيني مقر ونهائي يحدد إطار الكيان المأمول، وقد ثبت لاحقا أن هذه المواقف صحيحة عند قياسها في واقع ما أنجزه المجلس التشريعي، حيث بقي دوره هامشيا في التصدي للتحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إن لم يكن أعضاؤها قد ساهموا بشكل أو بآخر في تكريس واقع الاتفاقيات السياسية المختلة وتعزيز الفساد ومراكزه في المجتمع الفلسطيني.
التشريعي بين أوسلو الميت وشروطه الحية
"
رغم ما أحدثته الانتفاضة الفلسطينية من إثخان وتضحيات، فإن كل ذلك لا يمكننا من القول إن ما أنتجته أوسلو قد انتهى
"
اليوم تتحدث حماس عن تغير في الظروف والشروط أدي إلى مرحلة تجاوزت أوسلو واتفاقاتها وبالتالي وجود ظروف مكنتها من المشاركة في انتخابات التشريعي.
في الواقع العملي، ورغم ما أحدثته الانتفاضة الفلسطينية من إثخان وتضحيات، فإن كل ذلك لا يمكننا من القول أن ما أنتجته أوسلو قد انتهى، فبالرغم من تنصل إسرائيل من الاتفاق، وبالرغم من أنها قامت بتقويض السلطة وإعادة السيطرة على مناطق "أ+ب"، فإن السلطة بقيت حية ترزق على هامش اتفاقيات أوسلو.
ولقد أتبع ذلك بتعاطيها مع كل المبادرات اللاحقة من تقرير ميتشل، وتفاهمات باريس، ولاحقا تفاهمات طابا، إلى خارطة الطريق وتفاهمات وادي عربة، وأخيرا قمة شرم الشيخ، وفي كل ذلك أكدت السلطة تمسكها بالتسوية وإسرائيل وكانت طرفا في كل هذه المبادرات مما يعني ببساطة أن الأسس التي تقوم عليها الانتخابات لم تتغير ولعل انتخابات الرئاسة الفلسطينية الجديدة شاهد أخير.
ولعل مما يضاف إلى ذلك تحكم إسرائيل في إنجاح أو إفشال العملية الانتخابية، مما أدى فلسطينيا إلى التعامل مع المتاح احتلاليا لإنجاز شروط انتخابية متوافقة ومتفقة، وهو بالتالي يناقض التصريحات المتفائلة التي تتحدث عن إمكانيات تغيير قواعد اللعبة وتسخير التشريعي لتعزيز المقاومة الفلسطينية ومنع التنازلات السياسية، لأن الاحتلال وإن غض النظر عن دخول حماس في اللعبة السياسة أملا في تدجينها وتمييع ثوابتها، إلا انه لن يسمح لها بجعل التشريعي أكثر من منبر للسب وبعض الهوامش المدنية، وإلا فإن التقييدات على الأرض جاهزة من حيث الاعتقالات وتقطيع الجغرافيا.
مقاربات وأسباب دافعة لقرار حماس
"
حماس كانت تحوي تيارا نادى من قبل بالدخول في انتخابات التشريعي السابقة ضمن فلسفة الاقتحام من الداخل والاعتراك مع وقائع السياسة الفلسطينية بدل البقاء في دائرة الممانعة من الخارج
"
ولكن من المهم القول إن حماس تدرك داخليا وفي صفوفها المتقدمة أن أسباب دخول التشريعي لا علاقة له بالتصريحات العمومية، فحماس تعتبر الرفض السياسي للمسألة خطأ ليس نهائيا، وذلك لكونها حركة دينية بالأساس وحساباتها تخضع للحلال والحرام، وعليه فحديث حماس عن رفض سياسي لا يعني أنها قالت برفض ديني، مما يعني أنها تركت لذاتها هامشا في العودة ودخول التشريعي كما يجري حاليا متجاوزة بذلك شروطها السياسية السابقة.
لكن علينا أن نتذكر أيضا أن حماس كانت تحوي في داخلها تيارا نادى من قبل بالدخول في انتخابات التشريعي السابقة ضمن فلسفة الاقتحام من الداخل والاعتراك مع وقائع السياسة الفلسطينية بدل البقاء في دائرة الممانعة من الخارج وخسارة ما يعطيه التواجد في العمق من شرعية وحضور سياسي وتحرك سلس.
ولقد كان في ذهنية هذا التيار محاكاة على شاكلة حزب الله في لبنان أو الجيش الإيرلندي، بما يجمع بين الفعلين السياسي والعسكري، ولاشك أن تجربة الإخوان المسلمين في لبنان والأردن والكويت لها أثر مهم في تفعيل فلسفة هذا التيار، لكن الظروف الماضية، وأجواء التسوية المشحونة وما صاحبها من خطاب تعبوي ضد التسوية أبقى أصوات هذا التيار ضعيفة.
لكن مع الوقت تقوى هذا التيار وارتفعت أصواته داخل الحركة لعدة أسباب لعل من أهمها اغتيال أو غياب العديد من القيادات التاريخية للحركة، وبالتالي انتقال الحركة من الهجوم إلى الدفاع في محاولة للحفاظ على ذاتها ومقدرتها وبالتالي على مقاومتها وشرعيتها.
ولقد ساند ذلك الضغوط الممارسة على دول الجوار النصيرة للداخل، والتضييق على المصادر المالية في الخارج، جنبا إلى جنب مع ضرب مؤسساتها الاجتماعية والسياسية.
ومما زاد الطين بلة نجاح إسرائيل جزئيا بخلط أجواء الشحن العالمي تجاه الإرهاب مع المقاومة الفلسطينية، ثم عزز هذا التوجه تمن شعبي وثقافي على حماس أن تقود الشارع وتنقذه من براثن الفساد المستشري في صفوف السلطة، وجاء غياب عرفات وضعف حركة فتح وتقديم أبو مازن لتنازلات في مسائل الشراكة وتأكيده لبعض الحريات والضمانات، كل ذلك إلى جانب انتخابات البلدية والفوز المهم الذي حققته الحركة ليعزز توجهات الحركة نهائيا تجاه ضرورة مشاركتها في انتخابات التشريعي.
التشريعي بين مثالية حماس وحقيقة واقعه
"
دخول حماس للتشريعي سيؤدي إلى حرق أوراقها وانكشاف قياداتها، وهو ما يقود إلى تآكل سريتها ورصيدها كحركة مقاومة، حيث لايزال الفلسطينيون بحاجة لمقاومتها لأن الاحتلال مازال في أوج عدوانه
"
لقد كان لدخول التشريعي إرهاصات لا يمكن تجاهلها، إلا أنه من المهم القول إن دخول حماس للتشريعي ليس محفوفا بالورود، فمثلا تحاول حماس المزج بين الفعل السياسي والعسكري من خلال ممارسة المقاومة وكأنها ليست في البرلمان، وممارسة استحقاقات البرلمان وكأن المقاومة لا تؤثر على أدائها، وهذه المعادلة من الصعب إن لم يكن من المستحيل تمريرها، لأن وجود الحركة في التشريعي يلزمها أن تكون جزءا من المعادلة السياسية شاءت ذلك أم أبت، وسيكون السؤال الملح هو كيف يمكن للحركة أن تكون جزءا من منظومة تلزمها أن تكون فيها ضمن هامش إطاره إستراتيجية التسوية، بينما نداء الحق والواجب يستصرخها بأن تبقي يدها على الزناد؟
ولعل هذا سيؤدي إلى تمزق نفسي وجدل داخلي في جنبات الحركة يشدها ذات اليمين تارة وذات اليسار تارة أخرى، وسيكون على قيادة الحركة الانشغال بذلك خوفا من انشقاقات محتملة، وخلال ذلك سيكون الإشكال الأكبر لدى الحركة حرق أوراقها وانكشاف قياداتها، وهذا بالضبط ما سيؤدي إلى تآكل هامشها السري ورصيدها المهم كحركة مقاومة، حيث لازال الشعب الفلسطيني بحاجة لمقاومتها لأن الاحتلال ببساطة مازال في أوج عدوانه ويتحكم بكل التفاصيل الفلسطينية.
وما هو أخطر من ذلك أن لعبة التشريعي ربما ستضطر الحركة –خاصة إذا ما حصلت على نسبة كبيرة– إلى التورط في لعبة الحكومة والوزارات والانغماس أكثر في ملفات الدولة والحياة والمجتمع، وهذه المساحة على أهميتها ستتوسع تدريجيا على حساب مشروع المقاومة وأولوياتها أحيانا، وهنا ورغم أن الحركة ستسعى للانضباط والضبط الحزبي فإنها لن تستطيع التعامل مع نوابها بالآلية الحركية الداخلية لأن استحقاقات النائب في التشريعي ستحتم عليه التعامل مع مواقف قد لا تتوافق بالضرورة مع مصالح الحركة الآنية.
ويبقي الأهم أن الحركة وإن استطاعت تغيير أو ضبط قائمتها المفروزة ضمن كوتا النسبية وقوانينها، إلا أنها لن تملك حولا ولا قوة تجاه المرشحين ضمن الكوتا الفردية لكونهم منتخبين مباشرة من دائرتهم وبالتالي لا يمكن استثنائهم.
لكن الأخطر أن الحراك السياسي ضمن كل هذه المكونات الفلسطينية التي يلعب فيه الاحتلال وبإمكانه أن يضيق على من يشاء ويعتقل من يشاء، سيضعف تأثير الحركة على الصيغة الداخلية، وستصبح مشاركتها انفعالية وتسجيلية أكثر منها ذات فاعلية.
الحزبية السياسية بين الإعلان والممارسة
"
من الغريب أن حماس تصر على التمسك برفض تحولها إلى حزب سياسي رغم أنها تمارس الحزبية السياسية بكل مكوناتها في حالة دخولها للتشريعي
"
من الغريب أن حماس التي تدرك حجم هذه الإشكاليات تصر على التمسك برفض تحولها إلى حزب سياسي رغم أنها تمارس الحزبية السياسية بكل مكوناتها في حالة دخولها للتشريعي، ومع أن الحفاظ على المقاومة ربما يتطلب العكس فالإشكالية ليست بالتسمية بقدر ما هي مرتبطة بالدور الذي تؤديه الحركة أو أحد أجهزتها.
ولعل من أمثلة ذلك كون فرز حزب سياسي يمكن أن لا ينعكس فشلا في تجربة التشريعي على مشروع المقاومة الفلسطينية، وبالتالي على القضية ككل، بينما وجود حزب سياسي يعطي الحركة ميزات من حيث توليد الانضباط الحزبي وتجميع شخصيات أكاديمية وشعبية مؤثرة وليست بالضرورة حركية، وهذا بالضبط ما سيجعل حماس أكثر انشغالا بمعادلة "المقاومة والاحتلال" من انشغالها بمفاعيل "السياسة والمجتمع"، والأهم أنه سيحمي مشروع المقاومة من أي صور سلبية وأضرار مستقبلية قد تلحق بالحركة نتاج إغراءات السلطة المورطة.
مقاربات متناقضة ونتائج مورطة
وتثير المقاربة بين تجربتي حماس وحزب الله إشكالا في الأسس المعتمدة لخلق هذا التشابه، فالمعادلة اللبنانية مختلفة من حيث أهمية المقاومة وأهدافها، وكذا طبيعة السلطة والمساندين لها، وكلنا يعلم أن السلطة الفلسطينية تتحرك ضمن إستراتيجية التسوية وليس المقاومة وعليه فالمقاربات متناقضة.
وحتى المقاربة بين تجارب حماس والإخوان مختلة كون الإخوان يتحركون لتغيير أنظمة فاسدة بينما حماس تواجه احتلالا إحلاليا وليس فقط عسكريا أو نفعيا، وبذلك فهي مختلفة عن أي احتلال وعن أي نظام، كما أن حماس في أدبياتها تتحدث عن صراع عقدي حضاري وليس فقط عن صراع مكاني أو زماني.
ورغم ذلك وعلى أهمية القاعدة التي تحظى بها حماس والتي بينتها الانتخابات البلدية، فإنه علينا أن نعترف أن أساس عوامل فوز الحركة ليس فقط ما تمثله من ثقل، بل أيضا ما تطمح إليه من مقاومة لازال الوقت مبكرا على انتهائها.
"
المقاربة بين تجارب حماس والإخوان مختلة كون الإخوان يتحركون لتغيير أنظمة فاسدة بينما حماس تواجه احتلالا إحلاليا وليس فقط عسكريا أو نفعيا
"
ولعل الأهم هو أن الحركة ابتليت في بلديات مدمرة سيكون من الصعب عليها أن تعيد بناءها في سنين معدودة، ولذا فأمل التغيير لدى الفلسطينيين كبير لكن على الحركة أن تكون واعية لقدراتها والصعوبات التي ستواجهها، وعليه فلا يمكن مقايسة فوز البلديات على نتائج متوقعة للتشريعي، إذ إن الحركة وإن حصلت على نسبة تصل إلى 40% في نظام النسبية، فإنها لن تحصل على نسبة 25% من النظام الفردي لأسباب موضوعية أهمها غياب العديد من رموزها والقوة العائلية في الشعب الفلسطيني، وهذا يعني ببساطة أن الحركة لن تحصل على قوة ملائمة وغالبة بقدر ما هي قوة ممانعة تعتمد على تحالفها مع الأقليات، وعندها ستكون الحركة ملامة على أي أخطاء في التجربتين، أي حين تمرر الحكومة أو حين تسقطها.
وأخيرا فإنه ليس من المهم أن تدخل حماس التشريعي، بل الأهم هو هل حماس مستعدة لدخوله والتكيف مع تحدياته الكبيرة مقارنة مع إنجازاته المحدودة ؟ وإذا تكيفت حماس مع التحديات فهل بإمكانها فعلا أن توازن بين التحديات والثوابت وأن تحافظ على بوصلة الأهداف ومن ثم الأولويات، وأن تعطي مساحة المقاومة حقها قبالة استمرار الاحتلال والعدوان؟، لكن رغم ذلك علينا الاعتراف أن المخاوف أكبر من الآمال، وأن حماس تخوض تجربة مخاطرها لا تقل عن إشكالياتها وستكون تداعياتها أسرع من التوقعات، والمراهنة هنا تكون على وعي المقاومة والحريصين عليها، وذلك لأن فخ المغريات لا يقل خطرا عن واقع التضييق والمهددات.
ــــــــــــــ
كاتب فلسطيني